قوّة السلاح والفوضى

في العراق، يوجد 19 منفذًا بريًا يربطه مع الدول الملاصقة لحدوده من شماله إلى جنوبه، ومن غربه إلى شرقه، ومساحتها أكثر من /4000/ كم، أطولها الحدود "العراقية – الإيرانية" إذ تتجاوز /2100/ كم، وأقصرها مع الكويت، لا تتجاوز /190/ كم تقريبا، وما تبقى يتوزع بين حدود العراق مع (تركيا، سوريا، الأردن والسعودية).
 
منذ التغيير بعد 2003، وإلى يومنا هذا، صارَت المنافذ الحدودية البرية مكانات لأضخم عمليات الفساد المالي، إذ شابتها الفوضى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وسيطرت عليها أحزاب سياسية متنفذة ومتغلغلة، وتتقاسمها فيما بينها وفق ما أمسى معروفاً بـ "المُحاصصة"، لكل حزب وفصيله منفذ معيّن، وهكذا، وتتضح تلك علانية مع المنافذ الإيرانية.

وأكد عضو لجنة النزاهة النيابية خالد الجشعمي: "تتقاسم الأحزاب عبر فصائلها، السيادة على المنافذ الموجودة في البصرة وميسان، وتتحكم في البضائع الداخلة والخارجة، إذ يتخصص (حزب الفضيلة) عبر فصيله (قوات وعد الله) في تهريب النفط إلى خارج العراق عن طريق سيطرته على (قوة حماية النفط) الحكومية، فيما تتنفذ قوات (حزب الله العراقي) في شرطة الجمارك، أما المجلس الأعلى فيسيطر على (الشرطة المحلية وحماية المنشآت) في المحافظة".

ويُضيف، "جل المؤسسات الحكومية السابقة، ضالعة في عمليات التهريب بشكل أو بآخر، إذ تقوم بعض الأحزاب والفصائل الآنفة الذكر بالإشراف على عمليات تهريب المخدرات من إيران، عبر المنافذ الحدودية في المحافظة، فيما تشرف بعضها الآخر على عمليات تهريب سلع أخرى من بينها الخمور والمواد الغذائية منتهية الصلاحية وغيرها، يحدث ذلك بصورة خاصة في منفذ الشلامچة، ومنفذ الشيب التابع لميسان".

لافتاً، "لا تستطيع القوات الأمنية من السيطرة على الوضع هناك، ولا بإمكانها حتى الكشف عن الفساد الذي يجري، لأن هناك تنسيق ضمني بين الأحزاب والفصائل جميعها للنيل من كل من يحاول استهداف مصالحها وكشف فسادها، إذ هناك بعض الضباط الذين حاولوا فضح الفساد، تم نقلهم إلى أماكن أخرى في محافظات بعيدة، كما تعرض البعض إلى تهديد مباشر بالقتل إذا حاول التحدث بشيء".

في ديالى (بدر)، و (المجلس الأعلى) في واسط
هذا في البصرة وميسان، أما في ديالى وواسط، فلا يختلف الأمر كثيراً عن الوضع في المُحافظُتين السابقتين، أيضاً تبسط الأحزاب والفصائل نفوذها وسيطرتها على المنافذ الحدودية التي تربط ديالى مع محافظة كرمنشاه الإيرانية، وواسط مع محافظة إيلام الإيرانية أيضاً، تجارة ضخمة مستمرة فيهما، لكن معظمها ينخرها الفساد.

ويقول عضو مجلس محافظة ديالى تركي العتبي: "تدخل يومياً عشرات الشاحنات  من الحدود الإيرانية إلى محافظتنا عن طريق منفذ مندلي، لكنها تدخل برفقة مسلحين  تخاف منها حتى القوات الأمنية ولا تجرؤ على إيقافها وتفتيشها، إذ تشرف فصائل (منظمة بدر) التي يقودها هادي العامري على المنفذ، وهي تقوم بانتقاء من يعملون فيها على أسس طائفية ووفقا لشروط صارمة، حتى يضمنون استمرار عملهم دون إزعاج أو مشاكل"، 

ويضيف: "يتم ادخال كميات هائلة من المخدرات عبر هذا المنفذ بحماية قوة السلاح من قبل (فصائل بدر)، حتى وصل الأمر إلى حد لا يُطاق، مثلاً تعطيل الأجهزة الآلية واحتساب الأموال الداخلة من المنفذ يدوياً، لتتم عملية الفساد بأوسع نطاق لها، نتيجة ذلك الكم الضخم من الفساد، وبعد المطالبات والمناشدات من قبل مجلس المحافظة تم إغلاق المنفذ إلى حين ترميمه قانونياً، وتم افتتاح منفذ المنذرية بدلاً عنه منذ أيام".

أما في واسط، والتي ترتبط مع إيران عبر منفذ بدرة البرّي، فيقول عضو مجلس محافظتها "غالب الرديني"، إن المنفذ تجري فيه عمليات الفساد كل يوم، وأمام أنظار المارّة، ويتحدث بها القاصي والداني، الصغير والكبير، الموظف والعاطل، كلهم يعرفون ما يجري في ذلك المنفذ حق المعرفة، إذ تدخل الأرباح منه يومياً بمبلغ قيمته 500 مليون دينار، لكن ما يصل للحكومة المحلية لا يتعدى 95 مليوناً فقط، وذلك لسيطرة (المجلس الأعلى) عليه.

ويبين: "والدليل على ذلك، هو الحريق الذي التهم كرفان (الأرشيف الأساسي) بالمنفذ الذي يضم أهم الوثائق في آذار/ مارس الماضي، إذ ما أن سمع (المجلس الأعلى) بقرب قدوم لجنة تفتيشية للمنفذ من قبل ديوان الرقابة، سُرعان ما قام بحرق الكرفان بالتواطؤ مع أحد عناصر الأمن العاملة فيه، وذلك لإخفاء وثائق وملفات الفساد نهائياً قبل أن يتم كشفها".

نتائج ذلك الفساد جاءت كارثية على البلاد، فـ وفقاً لأرقام أدلتها اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي في وقت سابق، فإن العراق يخسر /8/ مليارات دولار سنويا من الموازنة العامة، من التعاملات الحدودية مع منافذ إيران، وذلك بسبب حالات الابتزاز وإدخال البضائع بشكل غير رسمي عبر تلك المنافذ، حسبَ اللجنة.

وقال الخبير الاقتصادي علي الفريجي: "مع انفتاح العراق مؤخرًا بشكل كبير على الأردن عبر الزيارات الرسمية الثنائية والاتفاقيات التجارية، ومنها الاتفاق على فتح منفذ طريبيل الحدودي الخاضع لمحافظة الأنبار بحضور رئيس الحكومة العراقية عادل عبدالمهدي ونظيره الأردني، تصاعدت حدة الخروقات في المنفذ فيما بعد افتتاحه، وشهدت وصول عدد كبير من فصائل الحشد الشعبي إليه لتحصيل الاتاوات.

ويضيف: "يحكم الحشد الشعبي قبضته على منفذ طريبيل الحدودي مع الأردن، إذ يمتلك سيارات وأسلحة وعناصر ويفرض رسومًا على أصحاب الشاحنات والبضائع الداخلة، بل إن التبادل التجاري فيه لا يتم إلا بحدود ضيّقة، وهو إجراء يتقصّده الحشد، وذلك لـ تطييب خاطر إيران، في وقت حاولت الحكومة السيطرة على الوضع فيه لكن محاولاتها لم تُجدي نفعاً يُذكر".

مُبيناً، "لأن افتتاح منفذ طريبيل يعني إحالة جميع المنافذ الأخرى في البلاد على التقاعد، فهو أقرب نقطة للوصول إلى الموانئ العالمية في أوروبا وأميركا، فضلاً عن قصر المسافة لتفريغ الحمولات داخل الأراضي العراقية بسهولة؛ لوقوعه في وسط العراق، بينما تفتقد المنافذ الأخرى في كل العراق لهذه الخواص، وبذلك فإن فتح التعامل التجاري على مصراعيه فيه، يعني نهاية التبادل التجاري مع إيران، وهو ما لا ترضى الأخيرة فيه".

السعودية منفذٌ للحجيج وآخر لم يرَ النور
يرتبط العراق مع السعودية بحدود مشتركة تصل إلى نحو 814 كم، أطولها انتشاراً تلك التي تقع في الحدود الغربية للعراق بمحافظة الأنبار، وهي التي تِعرف بـ ”عرعر“ لدى الجانبان العراقي والسعودي، ويمثل المنفذ (منفذ عرعر) نقطة التواصل الرئيسة والوحيدة مع السعودية اليوم، لأن المنفذ الآخر "جميمة" الذي يقع في محافظة المُثنى، لم يفتتح حتى الآن رغم مرور 3 سنوات على اتفاق البلَدَين بشأن افتتاحه.

ويقول الباحث الاستراتيجي باسل حسين: "منفذ عرعر بقى يتهاوى ويترنّح طويلاً بين الجانبين، يفتتح ويغلق، ذلك نتيجة لكثرة التصدعات في العلاقات بين العراق والرياض في السنوات السابقة، بخاصة في مدّة الحرب الطائفية (2006) وما تلاها، إذ كان المنفذ نقطة رئيسة لتغلغل وتسلل الإرهاب إلى العراق منه، وما أن انتهت تلك الأزمة حتى جاءت أزمة (داعش) ليتم بناء حاجز من قبل السعودية لمنع دخول داعش إليها من ذلك المنفذ".

ويوضّح، "في مدة رئيس الحكومة السابق، حيدر العبادي، شهدت العلاقات بين البلدين تطوراً ملحوظاً، لينعكس ذلك التحسن على جل المجالات، منها (منفذ عرعر)، فقرّر الجانبان فتحه، فتم تخصيصه بصورة أساسية لعبور الحجيج العراقيين إلى السعودية في كل موسم حج، أما التجارة فيه فهي محصورة جداً، لأسباب معروفة، وهي سيطرة الفصائل هُناك، وعدم مُحاباة الرياض للحشد، مما جعل المنفذ يقتصر على عبور ورجوع الحجيج فقط".

أما فيما يخص المثنى، فيقول النائب عن محافظتها "فالح الزيادي"، إن "منفذ الجميمة، كان يستخدم في السابق للتبادل التجاري بين العراق والسعودية، ونقطة عبور للمسافرين وقوافل الحج، لكنه أُغلق منذ حرب الخليج الثانية مع الكويت عام 1991، ولم يتم اعادته إلى صورته الطبيعية ما قبل ذلك التاريخ حتى هذا اليوم، برغم مرور سنوات ثلاث على اتفاق ثنائي بين بغداد والرياض على فتحه من جديد".

ويُضيف: "هناك جهات سياسية تضع عراقيل كثيرة لمنع فتح المنفذ، كونه سينعش المحافظة اقتصاديا، فيما تلك الجهات تسعى لإبقاء المحافظة تحت طائلة الفقر، فالمحافظة الثانية من حيث المساحة، هي الأولى من حيث الفقر، ولو أُفتُتِحَ المنفذ، يمكن أن تحصل على 60% من إيرادات المنفذ، وتوفر فرص عمل لفئة كبيرة من العاطلين، ولكن الأيام والسنين تمر ولم يَرَ المنفذ النور برغم مرور 28 عاماً على اغلاقه".

الفصائل تتحكّم والحكومة مغلوب على أمرها
تصل الحدود الادارية بين العراق وسوريا إلى نحو 650 كم، ويملك الرافدَين مع الشام ثلاث منافذ حدودية تتوزع على محافظَتي نينوى والأنبار، في الأخيرة يوجد منفَذَي القائم الحدودي مع البو كمال، ومنفذ التنف، أما في الحدباء فيملك منفذ ربيعة، والمنافذ الثلاث كانت النُقاط المهمة لسفر العراقيين نحو مدينة الياسمين (دمشق) هرباً من دُخان (بغداد) قبل عقد ونَيّف.


ويقول الخبير الأمني علي موحان: "لم تعد توجد للتبادلات التجارية مكان في منفذ ربيعة بالموصل منذ 5 أعوام، منذ دخول داعش للعراق، تحوّل إلى مركز للتجاذبات الأمنية، ونقطة لهروب الموصليين عبر هرباً من (داعش) بطرق عدّة وخفيَةً، لكي لا بتم القبض عليهم من قبل التنظيم، ومنذ ذاك وإلى اليوم، هكذا هي حالة المنفذ، صراع أمني فيه، ولا استقرار يسوده برغم خروج داعش من البلاد".

ويشير: "الأمر لا يختلف عنه كثيراً في منفذَي الأنبار، كلاهما يُعانيان استقرار الأمن، فلا وجود لأي تبادلات تجارية ولا أي تعاملات أُخرى، (التنف) تُسيطر عليه القوات الأميركية، وهو يخضع لها، أما (القائم) فكان مركزاً لعمليات الحرب مع داعش طوال سنوات مضَت،  وبعد القضاء على الأخير، صارَ تحت يد (كتائب حزب الله، وكتائب سيد الشُهَداء)، يُسيطران عليه ويدخلان إلى سوريا يقاتلان فيها ويرجعان إليه بكل أريحية دون أي لفتة من الحكومة".

الإيجابي إن وُجِدْ
يمكن القول إن الأمر الإيجابي الوحيد الذي يُذكر، هو التبادل التجاري في منفذ سفوان الحدودي مع الكويت، إذ تسري العمليات فيه بصبغة رسمية، لأن التناحر بين الطرفين هو على المنافذ البحرية، ولا وجود له في الحدود البرية، يستورد العراق منها جل بضائع دول الخليج العربي، ولا يمكن أن تنعدم الخروقات فيه، لكنها بالمجمل، قليلة جداً، ولا تؤثر كثيراً.

18 مليار دولار حصيلة الفساد
كحصيلة نهائية لكل ذلك الذي يجري في المنافذ الحدودية البرية العراقية مع نظيراتها، تقدر لجنة النزاهة البرلمانية حجم الفساد في المنافذ بين /13 – 18/ مليار دولار سنوياً، إذ أن متوسط الأموال التي يجب أن تجبى حسب القوانين على دخول البضائع عبر المنافذ الحدودية البرية للبلاد، تقدر بنحو /15 – 20/ مليار دولار سنويًا، من ضرائب ورسوم جمركية تفرض على البضائع، وتذهب لخزينة الدولة.

لكن خزينة الدولة لم يصلها خلال السنوات الماضية وحتى العام الجاري سوى معدل أموال تراوح بين /2 – 2.5/ مليار دولار في أحسن الأحوال في العام الواحد، فيما يذهب الباقي حصصاً لعمليات الفساد التي تقوم بها الأحزاب السياسية، كما تقول اللجنة.

قد يهمك ايضا:

تقرير عن الفساد في العراق يتسبب في هجوم واسع على قناة "الحرة"


الحلبوسي والخزعلي يبحثان ملفات مكافحة الفساد وانتخابات المحافظات