وابور الجاز
آخر تحديث GMT05:21:44
 العراق اليوم -

وابور الجاز

 العراق اليوم -

 العراق اليوم - وابور الجاز

عمار علي حسن

مع ضُحى كل جمعة، يجلس «شعبان» صامتاً بين بوابير الجاز. ينفخ فى هذا لتسليك الفونية المسدودة حتى يندفع الكيروسين إلى أعلى فيشتعل، ويلحم هذا بالقصدير ليسد ثقباً صغيراً يجعل الوابور يفرغ الهواء فلا يزهر باللهب، ويُقيم أرجل هذا بعد أن تآكل أو كُسر رأسه فيجبرها أو يغيرها مما يوجد معه من قطع غيار مستعملة أو جديدة، نائمة فى قلب الصندوق الذى يحمله على ظهره كل أسبوع قادماً من مدينة المنيا إلى قرية الإسماعيلية. يجلس والعيال يتحلَّقون حوله وعيونهم معلقة بيديه اللتين تعملان فى دأب، والدهشة تكسو وجوههم وكأن «شعبان» يخترع ما لم يصل إليه أحد من العالمين. طالما رأوا الفلاحين يضربون بالفؤوس والمناجل، ويلفون الطنبور فتتدفق المياه إلى زروعهم العطشى. ويرون النجار وهو يشق جذوع الشجر بمنشاره ويقطع بقادومه ويدق بشاكوشه. ويعرفون المذراة التى تفصل القمح عن التبن. هذا كله أصبح عادياً لهم. أما ما يفعله «شعبان» فهو جديد وغريب عليهم. على المصاطب فى المساءات الرائقة يأتى الناس على ذِكر «شعبان» كثيراً. يقولون: إنه طالب فى المدرسة الفنية الصناعية، مات أبوه وترك له أختاً تكبره وتدرس بمدرسة التجارة، ويعول نفسه وإياها. ستة أيام فى المدرسة، ويوم واحد للعمل، يلملم فيه بعض قروش الفلاحين الكادحين ويعود إلى البندر. - والله بطل. - شاب محترم. - يأكل لقمته بالحلال. - كان يمكن أن ينحرف فيصبح نشالاً، لكنه سيكمل تعليمه ويجد وظيفة. هكذا كان يقال عن «شعبان» فى ليالى السمر أو خلال فترة الراحة القصيرة التى تتوسط ساعات الكدح فى الحقول تحت الشمس الحارقة. ظهور «شعبان» فى قريتنا جعل «الكانون» فى خبر كان. كل امرأة ضغطت على زوجها ليشترى لها وابوراً بدلاً من نار الخشب التى تزجى دخاناً يكتم الصدور ويلهب العيون. ومع الأيام صارت بعض الفلاحات يحملن البوابير إلى الحقول فنجت الأشجار من التقليم الجائر. تقدمت الاختراعات فصنع الصناع «وابور الشرائط» وكانت أعطاله أقل فتضاءل رزق «شعبان»، لكنه كان يأتى كل جمعة ويجلس فى مكانه المعتاد صامتاً ويداه الملطختان بالهباب لا تكفان عن العمل. وفى يوم تزوجت ابنة شيخ البلد، فأحضر لها أبوها موقداً اسمه «البوتاجاز» له أربع عيون تشتعل فى وقت واحد، ومعه أنبوبة كبيرة، كان خادمهم يذهب كل شهر ليملأها بغاز البوتاجاز من البندر. بعدها اشترطت الأمهات على خُطَّاب بناتهن أن يكون البوتاجاز أول قطعة فى جهاز العروس. وهكذا راحت البوابير تتناقص فتناقصت زيارات «شعبان» لبلدنا، لتصبح مرة واحدة كل شهر. يأتى فيجلس فى مكانه من الضحى حتى قدوم الليل ثم يذهب. وقيل إنه حصل على الدبلوم وعمل فى وظيفة بمصلحة الكهرباء، وأخته توظفت بمجلس المدينة، لكنه يواصل إصلاح البوابير ليحسن دخله، لكن أين البوابير؟ جاء يوم وجلس مكانه، لكن أحداً لم يأتِ له بشىء حتى حل المساء. وراقبته العجوز التى يسند ظهره إلى حائط بيتها المتداعى، وحزنت لحاله. وقبل أن ينهض من قعدته الطويلة جاءت وفى يدها كيس بلاستيكى به كيزان ذرة خضراء، وقالت له: - بدلاً من أن تعود ويدك خالية. اعتذر لها، لكنها أصرت، فأخذ الكيس ومضى صامتاً. بعدها لم يظهر أبداً. ومع انتشار البوتاجاز فى كل البيوت غارت سيرته، ولم يعد أحد يتحدث عن كفاحه فى ليالى السمر، ولا أوقات الراحة بين ساعات الكدح فى الحقول. ذهبت ذكراه مع وابور الجاز إلى الأبد.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وابور الجاز وابور الجاز



أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 05:09 2017 الأربعاء ,28 حزيران / يونيو

بدء عرض مسلسل "حديث الصباح والمساء" على "أون دراما"

GMT 04:02 2015 الأربعاء ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

"تسلا" تكشف عن خطأ في حزام الأمان في سيارتها "S"

GMT 10:04 2019 السبت ,26 كانون الثاني / يناير

دراسة تؤكّد أن مرتدي النظارات أصحاب مستوى ذكاء مرتفع

GMT 17:04 2018 الجمعة ,07 كانون الأول / ديسمبر

محمود وحيد يكشف عن سعادته بالانضمام إلى الأهلي

GMT 19:56 2018 الجمعة ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرفي على خطوات تنظيف الجدران من الأتربة المتراكمة بسهولة
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq