​​​​​​​إعادة اكتشاف الآخر

​​​​​​​إعادة اكتشاف الآخر

​​​​​​​إعادة اكتشاف الآخر

 العراق اليوم -

​​​​​​​إعادة اكتشاف الآخر

بقلم :عاطف عبد العزيز

تكمن أهميةُ تجربة الشاعر عبد الله عيسى وجيله في أنها تمثل -أروعَ تمثيل- تلك الانتقالةَ بالغة الأهمية ​​في شعر المقاومة الفلسطينية بت​​راثه الشاسع الثقيل، ذلك التراث الذي أسهم فيه شعراء تاريخيون من مثل: توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم، بما يجعله أقرب لأن يكون تراثًا مستعصيًا على التجاوز.

ثمة حراك واضح في رؤية العالم يمكن رصده في أشعار عبد الله عيسى، وهو حراك فيه استجابة واضحة للتحولات التي اعترت هذا العالم ونظامه المعرفي، وفيه محاولة لإعادة صوغ الأسئلة بطريقة جديدة وصحيحة، أيضًا فيه جسارة مواجهة الحقائق المرة، بل والتحديق في عيونها الكئيبة.

ففي ديوانه (رعاة السماء .. رعاة الدفلى) يقول شاعرنا مخاطبًا أعداءه:

"يا أعداءنا!

لا تقتلوا أطفالنا حتى نحبَّ، كما نرى أطفالكم

لا تقتلوا أطفالنا

حتى نحب كما نرى أطفالكم

يدنو عويلُ الأمهات بخيبة الغدِ

من كلام اللهِ، يلعنُ

ربنا الجبار!

لا تمهلهم الزمنَ المؤجل كلَّه،

وأذقهم الكأسَ التي كادوا لنا"

انظروا معي كيف ينظر الشاعر لعدوه كإنسان كامل لا يقل عنه إنسانيةً، ولاحظوا كيف يخاطبه كأبٍ له أطفال كأطفاله، يستحقون الحب والحنان والحياة الكريمة، لا أثر هنا للكراهية العمياء التي تشيطن الآخر رغم اقترافاته المزرية، بل هناك الكراهية المبصرة القادرة على إقامة العدل، إنها الكراهية التي تنصبُّ على فكرة الشر ذاتها، ولا تتوقف عند المتورطين فيه.

ثم يأبى الشاعر أن ينهي قصيدته قبل أن يؤكد رؤيته تلك، فيجيء الختام كالآتي:

كي تبكي على أحدٍ

يُذكِّر بالذي قتلتَ من ضجرٍ

هناك.

هذه الطريقة في النظر إلى الآخر، تختلف اختلافًا بعيدًا عما ألفناه في شعر الأجيال الأسبق الذي كانت تشيع فيه ظاهرة نفي الآخر وإلغاء وجوده الإنساني، إما باعتباره قوى شر خفيةً غيرَ محددة المعالم، وإما بمسخه حيوانًا وضيعًا أو ما نحو ذلك، ولعلنا نتذكر قصيدةَ ( أسميك نرجِسة حول قلبي) لمحمود درويش، الذي كان يخاطب فيها سميح القاسم فيقول:

هنا أول الشعر والسخرية

هنا أول السلم الحجري المؤدي إلى الله

والسجن والكلمة

هنا نستطيع انتظار البرابرة المؤمنين بجحشٍ

توقف في أرضنا

قبل ميلاد عيسى عليه السلام

وأسس دولته بعد ألفي سنة.

أتحسب أن الزمانَ يضيّعُ حقَّ الحميرِ

بقتل العرب؟

على أن تلك الانتقالية الواضحة في الرؤية لدى عبد الله عيسى من ثنائية (الأنا في مواجهة الهو الغائب)، إلى ثنائيته الجديدة (الأنا في مواجهة الأنت الماثل المتعين)، لم تكن لتفرطَ في ذلك الثراء اللغوي الذي امتازت به تجربةُ الرواد، فثمة روح ملحمية عارمة تتلبس نصوصَ عبد الله كي تصِلَها بتراث آبائه، وثمة ولع بالتناص المُعمّق مع الميثولوجيا الدينية والكتب السماوية، وهي بلا ريب خصيصة فلسطينية، على اعتبار أن فلسطين أرضٌ تقاطعت فيها كل السردياتُ المقدسة.

يمكننا رصد انتقاله أخرى ذات طابع بنيوي في ذلك الديوان، وبالتحديد في قصيدته الملحمية (دم الأنبياء على معصمي)، إذ يعمد الشاعر إلى اصطناع تشكيل بصري غير مألوف في فراغ الصفحة، حين يقسمه رأسيًا كي يوزع نصه على هيئة مصفوفة تسمح بقراءة النص أفقيًا ورأسيًا، كما لو أن الشاعر يود الإيحاءَ لنا بأن للحقيقة الواحدة أوجه عدة، الأمر الذي يمكن اعتباره نقدًا مضمرًا للعقلية العربية التقليدية أحادية البعد، تلك التي أخفقت إلى حد بعيد في إدارة الصراع مع العدو.
  
وقبل أن أنهي كلامي، لابد لي هنا، أن أذكر لتجربة عبد الله عيسى فضلًا إضافيًا كونها تذكرنا بأن الشعرَ فنٌ صعب، يحتاج إلى مدفعية ثقيلة من المعارف والخبرات، فضلًا عن القدرة على الإنصات إلى الوجود، إذ لا مجال فيه للاستسهال، وهو الأمر الذي شاع للأسف بين تجارب شباب الشعراء في الوقت الراهن.

iraqtoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

​​​​​​​إعادة اكتشاف الآخر ​​​​​​​إعادة اكتشاف الآخر



GMT 12:16 2019 الإثنين ,30 أيلول / سبتمبر

فتاة القطار

GMT 16:24 2019 الأحد ,19 أيار / مايو

أجيال

GMT 19:35 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

هذا ما أراده سلطان

GMT 17:50 2018 الثلاثاء ,24 تموز / يوليو

في نسف الثّقافة..

GMT 14:29 2018 الإثنين ,23 تموز / يوليو

الحُرّيّة

GMT 17:41 2018 الخميس ,19 إبريل / نيسان

​عبدالرحمن الأبنودي شاعر الغلابة

GMT 13:08 2018 الأربعاء ,18 إبريل / نيسان

الموت كتكتيك أيدولوجيّ

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 17:39 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أترك قلبك وعينك مفتوحين على الاحتمالات

GMT 16:55 2018 الأربعاء ,12 أيلول / سبتمبر

مقتل 5 عراقيين و32 جريحًا إثر تفجير انتحاري في تكريت

GMT 02:45 2017 الأربعاء ,05 تموز / يوليو

بريجيت ماكرون تنضم إلى مجموعة أزياء بيت ديور

GMT 15:57 2019 الجمعة ,14 حزيران / يونيو

زلزال بقوة 6.5 درجة يضرب سواحل تشيلي

GMT 01:54 2019 الخميس ,03 كانون الثاني / يناير

تقليد "غريب" في إسبانيا يقتل طفلًا ليلة رأس السنة

GMT 10:40 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

ضبط 3 ملايين يورو مزورة في سطيف داخل الجزائر
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
Pearl Bldg.4th floor
4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh
Beirut- Lebanon
iraq, iraq, iraq