غَزّة هل ستتحوّل إلى سنغافورة أم تورا بورا

غَزّة.. هل ستتحوّل إلى سنغافورة.. أم (تورا بورا)؟

غَزّة.. هل ستتحوّل إلى سنغافورة.. أم (تورا بورا)؟

 العراق اليوم -

غَزّة هل ستتحوّل إلى سنغافورة أم تورا بورا

بقلم - عبد الباري عطوان

كان الكَثيرون داخِل قِطاع غزّة وخارِجه، يَتوقَّعون إعلانًا وَشيكًا من القاهِرة يكشف تفاصيل “صَفقة التهدئة” التي جَرى التَّوصُّل إليها بين حركة “حماس” ودولة الاحتلال الإسرائيلي بوَساطةٍ مِصريّةٍ، ولكن الغارات الجويّة الإسرائيليّة التي تواصَلت طِوال اليَومين الماضِيين لم تُبَدِّد هَذهِ التَّوقُّعات فقط، وإنّما كشفت الوَجه الحقيقيّ للعَدوّ الإسرائيليّ وأهدافِه الحقيقيّة في مُواصَلة أعمال القَتل والتَّدمير، التي تُؤكِّد أنّ الجيش الإسرائيلي ما زال يَملُك اليَد العُليا، وأنّ المُفاوَضات لم تَكُن بين طَرفين مُتساوِيين، وأنّ الصَّفقة “إملاء”، وطَريقٌ في اتِّجاهٍ واحِد فقط وهي الهَيمنة الإسرائيليّة المُطلَقة.

القِيادة الإسرائيليّة هي التي بادَرت بالتَّصعيد، وتَعمَّدت “إذلال” أعضاء المكتب السياسي لحركة “حماس” القادِمين من الخارج، للتَّداول في بُنودِ صَفقة التَّهدِئة، وبَلوَرة الرَّد النِّهائيّ بالمُوافَقة الذي سيَحملونه إلى القِيادة المِصريّة، وارتكَبت طائِراتها مَجزرةً جديدةً راحَت ضحيّتها أُسرَة “أبو خماش” الذين مزَّقت أجساد ثلاثة منهم صواريخها التي اختَرقت سطح المَنزل المُتواضِع في مدينة دير البلح، وقتلت الشهيدة إيناس أبو خماش، الحامِل في شَهرِها السادس، ورَضيعتها بيان محمد خماش، وأصابت الوالد إصاباتٍ خطيرة، وقَتلت الجار الشهيد علي الغندور، ومِن المُؤلِم أكثَر أنّني أعرِف هَذهِ العائِلة، مِثلَما أعرِف مُعظَم عَوائِل هذه المدينة الصَّامِدة، فمُخيّمها مَسْقَط رأسِي.

***

الجَناح العسكريّ لحركة “حماس” لم يَتردَّد في الرَّد بِقُوَّةٍ تَطبيقًا لاستراتيجيّة “النَّار مُقابِل النَّار”، وأطلَق 180 صاروخًا وقذيفة هاون على المُستَوطنات الإسرائيليٍة في غِلاف غزّة، اعترَضت القُبّة الحديديّة 30 مِنها فقط، الأمر الذي يَعني حُدوث تَطوُّرٍ في القُدرات الهُجوميّة لهذا الجَناح المُقاوِم عَكَسَها هذا الرَّد، وربّما ما خَفِيَ أعْظَم.

لُجوء المُستوطنين في مدينة سدروت إلى المَلاجِئ، وإلغاء مُباراة لكُرة القدم كانت مُقرَّرةً بين فريق هبوعيل بئر السبع وفريق نيقوسيا، وإصابة عاملة تايلنديّة، كانت حصيلة الخَسائِر الإسرائيليّة، لكن الخَسائِر النفسيّة والمَعنويّة أكبر بكثير، فهَذهِ هِي المَرّةُ الأُولى التي ينزل فيها المُستوطنون إلى المَلاجِئ مُنذ عُدوان عام 2014، وهذه هي المَرّة الأُولى أيضًا التي تَنطلِق فيها صافِرات الإنذار في مدينة مِثل بئر السبع، فأكثَر ما يُقلِق الإسرائيليين هو الشُّعور بعَدم الأمان، وهُم قَطعًا لن ينعموا بِه مَهما وقّعوا من اتِّفاقيّاتٍ مع مَن يَقبَل بتوقيعها من الفِلسطينيين حتّى يعود الحَق كامِلاً لأصحابِه.

لا نَعرِف مصير “اتِّفاق التَّهدِئة” الذي تَوصَّلت إليه المُخابرات المِصريّة وصاغَت بُنودِه من خِلال اتِّصالاتِها بين الجانِبَين الحَمساويّ والإسرائيليّ، ولكن هَذهِ الغارات الوحشيّة الإسرائيليّة لا تُبَشِّر إلا بالدَّمار والخَراب والقَتل، ولا نَستبعِد أن تكون هُناك أطراف في الجانِبين تُريد إفشاله، وخاصَّةً في الطَّرف الفِلسطينيّ، وربٍما جناح “القسّام” العَسكريّ، وصُقورِه على وَجهِ الخُصوص، فقد لاحَظنا اختفاء بعض هؤلاء عن المَشهَد بشَكلٍ لافِت، طارِحًا العَديد من علاماتِ الاستفهام.

مِليونان هُم عَدد سُكّان قِطاع غزّة يُعانون من الحِصار الخانِق، ووصلوا، أو مُعظَمُهم، إلى حافّة المَجاعة، في ظِل انهيارٍ كامِلٍ للخَدمات الأساسيّة من ماءٍ وكَهرباءٍ وصِحّة وتعليم، ونِسبَة بِطالة عالِية تَصِل إلى أكثر من ثَمانين في المِئة، وجَميع القِوى العربيّة والإسرائيليّة والعالميّة تتواطَأ في مُخطَّط تركيعِهِم للقُبول بحَلٍّ “إنسانيٍّ تخديريّ” وليس “حلًّا سِياسيًّا”، يُخَفِّف مُعاناتِهم، ويَحول دُونَ انفجارهِم على غِرار مسيرات العَودة، وما هُو أكثر التي أعادَت إسقاط القِناع عن الوَجه الإسرائيليّ العُنصريّ الدَّمويّ البَشِع، فأكثَر ما تَخشاه إسرائيل هو اقتحام مِليونيّ شَخص لحُدودِهم، وليس حُدودها، والعَودة إلى مُدُنِهِم وقُراهُم.

يبدو صَعبًا أن تُخاطِب الجائِع بأن يَستَمرّ في جُوعِه، وتُحَرِّضه على رَفض الطَّعام، ويَبدو خارِجًا عن كُل الأعراف أن تَطلُب من الذي يَعيش تحت القصف وَحيدًا أعْزَلاً، بأن يَرفُض “جزرة” التَّهدِئة، حتى لو كانت عَجفاء ضامِرةً ومَسمومة، ولكن ما تُريدِه إسرائيل والمُتواطِئون العَرب معها، هو إعادَة الفِلسطينيين، وفي القِطاع بالذَّات، إلى مرحلة ما قَبل هزيمة عام 1967، وانطلاقِ المُقاوَمة، أي أن يعيشوا مُتَسوِّلين يَقتاتون على فُتات وكالة غوث اللاجئين الأُونروا، ولكن بِدون هَذهِ الوكالة التي نجحوا في تَحطيمِها وتجفيف مَوارِدها الماليّة، وإغلاق ما تَبقَّى من أبوابِها، لأنّها تُشَكِّل ضِلعًا أساسيًّا في تَكريسِ هُويّة اللُّجوء وحَق العَودة.

الغارات الإسرائيليّة الوَحشيّة وما ارتكبت من قتل وتدمير جاءَت للتَّذكير بالنَّتائِج التي يُمكِن أن تَترتَّب على رَفض اتِّفاق التَّهدِئة، وجَرى افتعال أسبابها لتَحقيق هذا الغَرَض، أو هكذا نَعتقِد، نحن الذين عارَضنا اتِّفاق أوسلو، ورَفضنا حُضور حَفل تَوقيعِه، وتَنبّأنا وغَيرنا الملايين بنَتائِجِه الكارِثيّة.

***

اتِّفاقات أوسلو “السِّياسيّة” تَسبَّبت، وبَعد رُبع قَرنٍ، إلى وَضع السُّلطة والشَّعب الفِلسطينيّ البائِس الحاليّ، ونَسَفت كُل إنجازات الشَّعب النِّضاليّة المُشَرِّفة وحَوّلته إلى شَعبٍ مُتَسوِّل، ومَكَّنت إسرائيل من ابتلاعِ واستيطان ما تَبقَّى من الأرض.. تُرى كيف ستكون النَّتائِج المُتَرتِّبة على صَفقة التَّهدِئة الحاليّة، وما هُو الثَّمن الذي سيَدفَعُه الشَّعب الفِلسطينيّ مُقابِلها؟ وهَل سَتكون التَّهدِئة مُقابِل رغيف الخُبز المُغمَّس بالذُّل، وليس مُقابِل التَّهدِئة، أم أنّها سَتكون تَهدِئةً مُقابِل المال والمَزيد من الاستيطان، وتَفكيك ما تَبقَّى من ثقافَة المُقاومة والهُويّة الفِلسطينيّة النِّضاليّة؟

لا نَمْلُك إجابةً عن كُل هَذهِ التَّساؤلات، وربّما لن يَنتظِر من سَيُوقِّعون هذا الاتِّفاق رُبع قَرنٍ ليَعرفون النَّتائِج تمامًا مِثلَما انتظر مُهَندِسو اتِّفاقات أُوسلو، لأنّ الزَّمن تَغيّر، وباتَ يسير بوَتيرةٍ أسرَع، وكذلك مُتَغيِّراتِه.

نَختُم بالقَول: احذروا من نيكولاي ميلادينوف، مبعوث الأُمم المتحدة إلى الشرق الأوسط، وكَلامِه المَعسول ووعودِه المَسمومة، واحذروا من السَّماسِرة العَرب الذين يُزيِّنون لَكُم التَّنازلات، واحذروا من الذين يُلَوِّحون لَكُم بالأموال والمَشاريع، فغَزّة لن تُصبِح سنغافورة إلا إذا كان المُقابِل كُل فِلسطين، وإلغاء حَق العودة، وكُل أمل بالعَودة بالتَّالي.. وربّما تُصبِح “تورا بورا” أُخرَى، أو هانوي أُخرَى، وكل الاحتمالات وارِدَة.. والأيّام بَيْنَنَا.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غَزّة هل ستتحوّل إلى سنغافورة أم تورا بورا غَزّة هل ستتحوّل إلى سنغافورة أم تورا بورا



GMT 08:31 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

موازين القوى والمأساة الفلسطينية

GMT 08:29 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

ترامب يدّعي نجاحاً لم يحصل

GMT 08:24 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

فلسطين وإسرائيل بين دبلوماسيتين!

GMT 08:23 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

أزمة الثورة الإيرانية

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 19:02 2018 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

"Repossi" الجديد في دبي يلبّي طلبات كلّ إمرأة

GMT 20:39 2018 الأربعاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

رواية "كل نفس" لنيكولاس سباركس تتصدر أعلى المبيعات

GMT 00:48 2016 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

"كورشوفيل" أبرز منتج للتزلَج على مستوى العالم

GMT 06:50 2019 الثلاثاء ,22 كانون الثاني / يناير

مشكلات سياسية واقتصادية تواجه منتدى "دافوس"

GMT 17:34 2019 الإثنين ,21 كانون الثاني / يناير

مؤامرات ليبية يدعمها قادةٌ عرب لإحباط قمّة بيروت

GMT 22:06 2019 الأحد ,06 كانون الثاني / يناير

الأهلي يوضح حقيقة الحصول على دعم في تمويل صفقة الشحات

GMT 01:32 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

الفنانة كوكي تعرب عن سعادتها بشأن فيلم "ورد مسموم"

GMT 03:35 2018 الجمعة ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

أمينة خليل تنتظر عرض فيلمَي "122" و"الكنز 2" في دور العرض

GMT 23:20 2018 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

اختبارنا الحقيقي لـ الجوهرة Cullinan أفخم سيارة SUV في العالم

GMT 14:51 2018 الأربعاء ,05 أيلول / سبتمبر

"ديكورات ورود" رائعة ومميزة لتزيين حوائط منزلك

GMT 16:04 2018 السبت ,05 أيار / مايو

الفحوص تؤكد تورط أسبل كيبروب بالمنشطات
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq