دكتور إلا يوم

دكتور إلا يوم

دكتور إلا يوم

 العراق اليوم -

دكتور إلا يوم

بقلم : إنعام كجه جي
بقلم : إنعام كجه جي

اطمئنوا، لن أكتب اليوم عن «كورونا» مالئ الدنيا وشاغل الناس؛ بل عن الدكتور شكري عازر، طبيب الأمراض الصدرية الذي رحل في القاهرة قبل يومين. «افتكره ربنا»، كما يقول المصريون، ومات ميتة «طبيعية»، الفيروس منها براء.
ذهبت إليه، قبل سنوات، في شقته بجبل المقطم؛ لأنني احتجت شهادته في فيلم وثائقي. كان قد تجاوز الثمانين حولاً، طويل القامة، ضعيف الصوت، تركت المعتقلات آثارها على عموده الفقري. دخلها أيام الملك فاروق، وخرج منها ليعاود الدخول أيام عبد الناصر، ثم ليخرج وينال شهادة الطب ويفتح عيادته لعلاج الفقراء.
رجل «مناضل». صفة حملها بجدارة بينما هي تُطلق على كل من هبَّ ودبَّ. عاش حياته برفقة سعاد الطويل. زوجة مناضلة مثله و«خريجة سجون». ساندته واتكأت عليه ستين عاماً حتى أفلت يدها ومضى.

قدمت لنا ربة الدار الشاي في «صينية فضة»، وطقم جميل من «البورسلين». لا مكان في صالونها للبلاستيك. روت كيف تعرفت على رفيقها الشاب شكري عازر عندما كانا يناضلان في سبيل الكرامة، يدخلان المعتقلات ويخرجان منها أقوى عزيمة. خطبها ولم يكن قد تخرج بعد. بقي له يوم واحد قبل أن يكمل امتحانات كلية الطب. ذهبت الشرطة واعتقلته في اليوم الأخير، بعد أن أدى المواد كلها عدا شفهي الجراحة. صار لقبه بين زملائه في المعتقل «الدكتور إلا يوم».
تسللت رسائل الحب عبر جدران سجن القلعة. ولما أطلقوا سراحه وخرج إلى الشارع وجدها تنتظره. ذهب أحد الرفاق واشترى خاتماً، وتزوجت «الدكتور إلا يوم». عاشت معه حياة تشبه الأفلام، في مطارداتها ومفاجآتها واحتدام أحداثها.
نال الزوج شهادة الطب، وواصل نشاطه في الحركة الوطنية. نبذ الطائفية، وكان يؤمن بأنها صناعة استعمارية. ترجم كتباً سياسية وزعها مجاناً. انخرط في تنظيم يساري، وأصدر مع رفاق له صحيفة «الأفق». كان شعارها الذي صاغه الطبيب السجين محجوب عمر: «صاح ربَّان في أعلى السفينة: هناك أرض في الأفق». سخر أصحاب التنظيم من قيادات اليسار، وأوصوا بالحذر منها لأنها لن تقود إلى الاشتراكية. أعلن سجناء الواحات الإضراب عن الطعام، وذهب مندوب من المخابرات لتهدئة الوضع. قالوا له: «لسنا مجرمين». قال لهم إن عبد الناصر «يتمنى لو كان عنده رجَّالة زيكم».
صارت شقة الزوجين مكاناً للاجتماعات، وعيادته في ميدان رمسيس مقصداً للمصدورين الذين لا يملكون أجرة العلاج. دافع بضراوة عن صندوق التقاعد، وأسس نقابة مستقلة لأصحاب المعاشات. انتقل بنضاله من مستوى الحلم إلى رصيف الواقع. أراد في شبابه ثورة تنصف فقراء المصريين. قامت ثورة مدوية أعقبها تأميم أكثر دوياً. عدوان ثلاثي. حرب ونكسة. حرب ثانية وعبور. شاخ وهو يشهد تتابع أربعة رؤساء على حكم مصر، ثم اشتعال ميدان التحرير. رأى الشيوعية تتداعى والشيوعيين المخضرمين يضربون أخماساً بأسداس.
من يصغي إلى الدكتور شكري والسيدة سعاد، يفهم أن الجذوة لم تنطفئ في قلبيهما. لا تقاعد في النضال، ولا في الحب. يبدآن النهار بتصفح الصحف. يراجع الزوج ملفات أوراقه. يحتفظ بكل مقال وكل صورة. وتركن زوجته عكازها وتجلس إلى حاسوبها، تكتب أفكاراً وتبعث برسائل، وتطمئن على الأولاد والأحفاد. صوته خافت بسبب وهن الحنجرة، وصوتها ثابت. عنيدة لا تتراجع عن قول رأيها فيما تراه أعوج. تبدو شقتهما بحيرة هدوء تطل على ساحة مزروعة بأشجار معمرة؛ لكن ضجيج القاهرة يبقى أقرب من التصور. من الذي سيسند ذراع «الهانم» بعد رحيل رفيق العمر؟

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دكتور إلا يوم دكتور إلا يوم



GMT 14:04 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 11:55 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الكميت بن زيد والأعشى

GMT 07:10 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

قتلوه... قتلوه... قتلوه لقمان محسن سليم شهيداً

GMT 22:33 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

كيم وكيا، فوردو وديمونا، نافالني وفاونسا؟

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 21:41 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 21:48 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 14:06 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

دانيكا باتريك تبحث عن سيارة لدايتونا وإنديانابوليس 500

GMT 13:15 2018 الجمعة ,27 تموز / يوليو

وفاة الفنانة هياتم عن عمر يناهز 69 عامًا

GMT 08:03 2018 الإثنين ,16 تموز / يوليو

نجوى فؤاد تطمئن جمهور الفنانة هياتم على صحتها

GMT 07:14 2017 السبت ,16 كانون الأول / ديسمبر

"ديلي ميل" تستكشف أكثر الأماكن كآبة في اسكتلندا

GMT 17:01 2017 الجمعة ,08 كانون الأول / ديسمبر

نص كلمة مصر النارية أمام مجلس الأمن من أجل القدس

GMT 02:35 2017 الثلاثاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

مريم سامي تُؤكِّد أنّ الهند أحد أكثر دول العالم جاذبية

GMT 02:12 2017 الأحد ,17 أيلول / سبتمبر

أهمية تناول الشمندر بعد التمارين الرياضية

GMT 08:10 2015 الإثنين ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

أمطار على محافظة البدع في منطقة تبوك

GMT 05:11 2017 الأربعاء ,17 أيار / مايو

شركة "دايماك" تكشف عن أسرع سيارة سباق في العالم
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq