لكنْ ماذا نفعل بالماضي

لكنْ ماذا نفعل بالماضي؟

لكنْ ماذا نفعل بالماضي؟

 العراق اليوم -

لكنْ ماذا نفعل بالماضي

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

هناك من يعبد الماضي، وقد يتفرع عن ذلك عبادة الأسلاف والموتى. النزعة هذه قد تبرّر نفسها بالأصالة والجذور، وقد تترجم نفسها ببناء التماثيل وتقديس الأضرحة. لكنْ هناك، في المقابل، مَن ينكر الماضي داعياً إلى إلغائه، أو يحاسبه بمعايير الحاضر مستنتجاً أنه رجعي لا يستحقّ التذكّر، بل لا يستحقّ الوجود. النزعة هذه قد تسمّي نفسها تقدمية ومستقبلية.

النزعتان هاتان ليستا متضادتين تضاداً مطلقاً. فكثيرة هي الحركات الثورية التي ما إن تأسست في أنظمة حتى باتت محافظة تُدين بالولاء لما كانت تُدينه. وعلاقة الشيوعيين بضريح لينين مَثَل معروف.
مناسبة هذه الاستعادة تحطيم التماثيل الذي شهدته مؤخراً مدن أميركية وأوروبية، رداً على جريمة قتل جورج فلويد، وعلى العنصرية بالتالي. هذا الحدث استجرّ نقاشاً لم نُعِره كبير اهتمام، علماً بأنّ الثورات العربية بالأمس القريب أسقطت بضعة تماثيل، وفي 2003 أسقط عراقيّون تماثيل لصدّام حسين. الماضي المرفوض لم يتجسّد فحسب في التماثيل: فبعد ثورة 1952 في مصر طالب بعض «الضبّاط الأحرار» بمنع أم كلثوم من الغناء، لأنها غنّت للملك فاروق.
وبالطبع فالميل الإلغائي، الذي يظهر في لحظات انفعال وتوتّر شعبيّين، يملك تاريخاً عريقاً يرجع إلى ما قبل الزمن الحديث، لدى شعوب كثيرة بعضها أراد التكفير بتقديم الأضاحي وبعضها رغب في الولادة من صفر. الكنيسة في العهد البيزنطي لم تبرأ من هذا الميل: في القرنين الثامن والتاسع، انتعشت «حركة تحطيم الأيقونات» (iconoclasm) التي رعاها أباطرة ورجال دين. وهي لئن انبثقت من مواقف لاهوتية، مفادها محاربة ما تبقى من عبادة الأصنام، فقد ارتبطت بمواقع اجتماعية وطبقية متباينة. وبعد ألف عام، كان للثورة الفرنسية مساهمتها. في 1792، صدر قانون يعلن أن «المبادئ المقدّسة للحرية والمساواة لن تسمح باستمرار تماثيل رُفعت للأبّهة والتمييز والطغيان في اعتدائها على أعين الشعب الفرنسي». وبعد اغتيال القيادي الراديكالي جان بول مارا، في العام التالي، انفجرت حركة تخريب وتحريق تعدّت التماثيل إلى الثقافة عموماً. فالفن، وفقاً لهم، خرّب الأخلاق، وهو يتعارض مع البساطة والفضيلة الجمهوريتين.
وفي بدايات ثورة 1917 في روسيا، هُدمت تماثيل القياصرة واستُبدلت بها تماثيل الثوريّين، كما نشأت جماعة «الثقافة البروليتارية» التي طمحت إلى استبدال «جماليات عمالية ثورية» بالأشكال الفنية القائمة. أما «الثورة الثقافية» الصينية فأعملت سكينها في الماضي الثقافي وغير الثقافي، بذريعة «احتدام التناقضات إبّان الانتقال إلى الاشتراكية». ومن هذا القبيل، مزّق كمبوديو «الخمير الحمر» الصور والإشارات وحطّموا المعابد. ذاك أنّ المطلوب ليس التخلّص من البشر الرجعيّين فحسب، بل أيضاً من الذاكرة الرجعية.
لكنّ بولنديّي ما بعد سقوط الشيوعية ذكّرونا بحقيقة مُقلقة: إنّ هدم التماثيل ليس عاصماً عن إنشاء تماثيل أخرى. فمقابل الأنصاب التي هُدمت للينين والقادة الشيوعيّين، أقيمت أنصاب أكثر عدداً للبابا البولندي يوحنّا بولس الثاني. وهذا قبل أن يذكّرنا «داعش» بما هو أمرّ، من أنّ نظاماً بالغ التصنيم قد يحلّ محل «الصنم» المهدوم.
وبالعودة إلى أحداث الماضي القريب، من غير المقبول طبعاً أن يحتل رموز العنصرية وتجار العبيد الفضاء العام، وأن يشغلوا موقعاً متصدّراً في ساحاته المركزية. والشيء نفسه يصحّ في الغضب الذي يفجّر تماثيل طغاة كصدام حسين وحافظ الأسد عند سقوطهم. وفي هذا، فضلاً عن نموّ الحساسية الطالبة للعدالة، اعتراضٌ لا على احتلال المكان فحسب، بل أيضاً على احتلال التاريخ وعلى كتابته بيد المنتصر. لكنّ هذا السلوك، المفهوم في لحظاته الأولى، ليس مبدأ معصوماً، ولا ينبغي أن يكون كذلك. فهل تُهدَم مثلاً مبانٍ بُنيت بأموال تجارة العبيد في أميركا، أو تُحذَف من كتب التاريخ والأدب مسرحيّة «عُطيل» لشكسبير أو قصيدة المتنبّي في هجاء كافور؟ ذاك أنّ هذا الميل قد يتمادى، كما شهدنا مع فيلم «ذهب مع الريح»، ليشمل الفنّ والموسيقى والأدب والسينما والعمارة والأبنية، وصولاً إلى الأهرامات، بحجّة عنصريتها أو انطوائها على عنصريّة ما.
إنّ استئصال الماضي، كأي استئصال، عمل خطير يُحلّ التنفيس الجمعي عن الغضب محلّ الاشتغال على القوانين وتعليم التاريخ على نحو يجعلنا أكثر انتباهاً إلى العنصرية أو الطغيان، وأشدّ تنبّهاً إلى مسؤوليّتنا.
فابتداءً بـ1790 وفي معمعة الثورة الفرنسيّة، ظهر من يحطّمون التماثيل بحجة أنها تعبّر عن «النظام القديم»، كما ظهر من يقدّم إجابة عميقة وعمليّة عن المشكلة. أكبر المتصدّين لهم كان الأب هنري غريغوار، أحد أبرز الناشطين لإقرار قانون إلغاء العبودية والمتحمّس للاقتراع الشامل والمساواة العرقية والدينية ولإلغاء امتيازات الكنيسة والنبلاء. الأب غريغوار، رداً على التكسير، دعا إلى إنشاء «معهد الفنون والصنائع» الذي بات أوّل متحف في أوروبا، وفيه جُمعت كنوز القصور والكنائس وتماثيلها. فهذه الأخيرة تراث مشترك للأمة كلّها، وفرصة للتذكير بالقهر والاضطهاد، أمّا مَن يحطّمونها، بحسب غريغوار، فيجمعون إلى الهمجية مناهضتهم للثورة عبر تشويه سمعتها. مع غريغوار، ولد المتحف، وصار في وسعنا أن نقول للتماثيل التي نكره: إلى المتحف.
هنا، لا بأس بالتذكير بأنّ المتحف إنّما وُلد أصلاً لهذا الغرض.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لكنْ ماذا نفعل بالماضي لكنْ ماذا نفعل بالماضي



GMT 14:04 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 11:55 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الكميت بن زيد والأعشى

GMT 07:10 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

قتلوه... قتلوه... قتلوه لقمان محسن سليم شهيداً

GMT 22:33 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

كيم وكيا، فوردو وديمونا، نافالني وفاونسا؟

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 00:37 2018 الخميس ,28 حزيران / يونيو

اللؤلؤ والماس يلتقيان في مجوهراتك لعام 2018

GMT 16:05 2018 الخميس ,10 أيار / مايو

إيقاف أردا توران 16 مباراة في الدورى التركي

GMT 04:33 2017 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

أصالة تبهر جمهورها خلال احتفالات العيد الوطني في البحرين

GMT 12:42 2017 الخميس ,14 كانون الأول / ديسمبر

تعرفي على صيحات مكياج العيون الدخاني لشتاء 2018

GMT 02:03 2017 الإثنين ,30 تشرين الأول / أكتوبر

خبيرة التجميل سناء زيتو تُصمّم مكياج "الهالوين" بخطوط فنية

GMT 00:41 2013 الإثنين ,24 حزيران / يونيو

بار ريفالي مثيرة ببيكيني ساخن في البحر

GMT 07:15 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

شركة "ايرباص" تختبر سيارتها الطائرة ذاتية القيادة

GMT 11:45 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

هاجر أحمد تُشارك في الجزء الخامس من "حكايات بنات"
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq