كي لا نفجع ببغدادي آخر

كي لا نفجع ببغدادي آخر

كي لا نفجع ببغدادي آخر

 العراق اليوم -

كي لا نفجع ببغدادي آخر

غسان شربل
بقلم : غسان شربل

كان يومَ ترمب بلا منازع. نادراً ما أتيحَ لرئيس أن يستدرجَ العالمَ بأسره لانتظار روايته. وهي كانت مثيرةً ومشوقة. كانت لحظة قوة استثنائية في ولايته. وكان باستطاعته الإعلان عن إنجاز اشتهاه كثيرون. والقول إنَّه عاقبَ كبيرَ المرتكبين والمطلوب الأول في العالم. وإنه أنزلَ حكمَ العدالة بالرجل الذي حزَّ أعناق أميركيين وصنعَ نكبة الإيزيديين وقتلَ كثيراً من الأكراد والسوريين والعراقيين، وروَّع الأوروبيين وسجَّل رقماً قياسياً في تعدد جنسيات ضحاياه.

تحدَّث باسم أميركا القوية. أميركا القدرات الهائلة والجيش الأكثر تطوراً والاستخبارات المتكئة على التطور التكنولوجي. عن خطورة العملية والرجال الذين جازفوا. وسخر من الرجل الذي أرعبَ العالم. وحكى كيف كان يتحرك باكياً ومذعوراً، وأنه توَّج جرائمه بالتسبب في قتل ثلاثة من أطفاله. ولم يفُته التذكير بأن الذراع الأميركية الطويلة امتدت حديثاً إلى حمزة بن لادن نجل الرجل الذي أدمى الأرض الأميركية نفسها، واستهدف رموزَ قوتها ونجاحها.

لا غرابة أن ينشغل العالم بخبر مقتل أبو بكر البغدادي. إننا نتحدَّث عن رجل أثخن المنطقة والعالم. قاتل بمخيلة مسنونة. جلاد استثنائي عابر للحدود والقارات. بدَّد سنوات من عمر دولتين وشعبين ومن أعمار ملايين الناس. بزَّ أسلافه في نهر التطرف. تفوَّق عليهم في فنون القتل والترويع وإطلاق أمواج الكراهية.

ومن حق دونالد ترمب أن يحتفل. فهذا النوع من الضربات يسجله التاريخ. ولعله يقول في سره إن القتيل الذي سقط بأمر مباشر منه أشد خطورة من القتيل الذي سقط بأمر من سلفه باراك أوباما؛ وهو أسامة بن لادن. لم يسعف الحظ زعيم «القاعدة» في إعلان «دولة» وتنصيب نفسِه «خليفةً» مزعوماً. ولم يتمكن من استقطاب من وفدوا من أماكن قصيَّة بعدما خدعتهم العبارات والرايات.

منذ دخوله البيت الأبيض يقيم ترمب في العاصفة. وواضح أنه يحبُّ العواصف. قراراته مفاجئة وطريقته صادمة. راقصٌ منفردٌ لا يحب التانغو مع المؤسسات ولا مع الدول. ومع اشتداد العواصف على طريق الانتخابات جاءت هذه الهدية الكبرى. إنها ليست شبيهة بساعة الإعلان عن الخروج من الاتفاق النووي مع إيران أو فرض عقوبات قصوى عليها. ومختلفة عن فرض رسوم أطلقت حرباً تجارية مع الصين. أو التلميح بسحق الاقتصاد التركي. أو الإعلان المفاجئ عن الانسحاب من سوريا والابتعاد عن «الحروب السخيفة التي لا تنتهي».

إنها هدية لم يحصل على مثلها من قبل. هدية كانت موضع ترحيب الدول القريبة والبعيدة. صيد ثمين دفع أطرافاً كثيرة إلى المسارعة في إعلان دورها في ترتيب الوليمة. غيرت الضربة المفاجئة العناوينَ في كل مكان. المواقع التي كانت منشغلة بإجراءات عزل الرئيس أو انتقاد الانسحاب من سوريا وجدت نفسها أمام عنوان وحيد هو قتل البغدادي. ولأنه عاشق إثارة رمى ترمب تغريدة قصيرة داعياً العالم إلى انتظاره ليزفَّ إليهم النبأ بعد الفراغ من فحص الحمض النووي. لا يمكن القول إن جثة البغدادي تجرِّد خصومه من أسلحتهم، لكنها تعطيه سلاحاً بعدما كان بدأ الكلام عن أن انسحابه من سوريا هو هدية كبيرة لـ«داعش»، فضلاً عن روسيا وإيران.

سيتمكَّنُ ترمب من القول إن انسحابه من سوريا، الذي تعرَّض مرات عدة لاستدراكات تبقي قوة محدودة في أماكن محدودة، لا يعني استقالته من محاربة الإرهاب. وسيقول إنه يخوض هذه الحرب من دون إبقاء جنود منتشرين في مسارح النزاعات عرضة للثأر والأخطار. ويعترف قادة ميدانيون واجهوا «داعش» في العراق وسوريا أن الحرب مع التنظيم كانت ستمتد سنوات إضافية لولا الضربات الجوية القاصمة التي وجهها سلاح الجو الأميركي إلى معاقله ومخابئه. هذا من دون أن ننسى أن الضربات الجوية ما كانت لتكفي لولا مساهمات القوى التي خاضت معارك برية طاحنة ضد التنظيم.

لنترك جانباً الشق الأميركي من المسألة. مقتل البغدادي لا يعني مقتل «داعش» رغم أهمية قطع رأس التنظيم. وأظهرت التجارب أن هذا النوع من التنظيمات اكتسب خبرة في التكيف مع الظروف الصعبة. وأن «داعش» كان يعمل في الأعوام الأخيرة بصورة لا مركزية. ثم إن التنظيم راهن تحت الضغوط على دور «الذئاب المنفردة» في ترويع العالم وإقلاقه.

لنترك جانباً الشق الأميركي ولنتذكر أن الأهم هو ألا نفجع مرة أخرى بولادة بغدادي آخر يغرق منطقتنا في الدم وبلداننا في خراب هائل.

لا بد أن نتذكر أن «داعش» تمكن من الولادة حين تصدعت دول وتمزقت اللحمة في مجتمعات. ولد في ظل كراهيات الغلبة والإحباط والتهميش ومحاولات الاستئثار وشطب الآخر واغتيال الملامح. لنتذكر أن «داعش» ولد في العراق المتصدع. وفي سوريا المتصدعة. ولد وسط الكراهيات المذهبية. وأنه عثر على فرصته حين ساد منطق الاستباحة، وحين فتحت أبواب الحدود التركية على مصراعيها للمقاتلين الجوالين ليدخلوا سوريا ويخوضوا في دم انتفاضتها وشعبها.

المهم ألا نفجع ذات يوم ببغدادي آخر. أميركا بعيدة. إننا المسرح. والمواجهة لا تقتصر على الشق الأمني. لقد بدأ الخراب الكبير حين استولى التطرف على المناهج والمساجد وحين تخرج التلامذة من المدارس يكرهون الآخر ويعدّون كل اختلاف جريمة تستحق القتل.

كي لا نقعَ في بغدادي آخر لا حل إلا بناء الدولة العصرية التي تتسع لكل مكوناتها.

لا حل إلا بمناهج وبرامج تفتح النوافذ على العالم وتشجع على التعايش وقبول حق الاختلاف. لا حل إلا بإعادة الأمل بالمستقبل والاستقرار والازدهار وحماية الشباب من «داعش» وكل تعصب يرمي إلى شطب من لا يشاطره القراءة القاتمة للعالم.

سبح ترمب البارحة في الأضواء. كان قوياً إلى درجة الاعتراف بتلقي تسهيلات من آخرين. احتفل «جنرال (تويتر)» باصطياد الرجل الوافد من كهوف التاريخ. أما نحن فليتنا نتعلم.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كي لا نفجع ببغدادي آخر كي لا نفجع ببغدادي آخر



GMT 14:04 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

ذهبت ولن تعود

GMT 11:55 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

من شعر الكميت بن زيد والأعشى

GMT 07:10 2021 السبت ,06 شباط / فبراير

قتلوه... قتلوه... قتلوه لقمان محسن سليم شهيداً

GMT 22:33 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

كيم وكيا، فوردو وديمونا، نافالني وفاونسا؟

أبرز إطلالات شتوية رائعة من وحي هايلي بيبر

واشنطن - العراق اليوم

GMT 00:11 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

إدارة ترامب تعلن قتل الطيور المهاجرة ليس جريمة

GMT 18:58 2017 الأحد ,10 كانون الأول / ديسمبر

عقد قران ابنة الحبيب علي الجفري بمهر 5 أوقيات فضة

GMT 22:38 2016 الجمعة ,03 حزيران / يونيو

تعليم الصلاة للأطفال مسؤولية الأمهات

GMT 13:27 2019 الخميس ,24 كانون الثاني / يناير

سيدات تحرضن على ممارسة الرذيلة في الهرم

GMT 18:03 2018 الأحد ,14 تشرين الأول / أكتوبر

إطلالات جريئة للفنانة مي سليم تلفت الأنظار إليها

GMT 10:49 2018 الأحد ,14 تشرين الأول / أكتوبر

بطولة اللاجئين

GMT 22:00 2018 السبت ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على أفضل وجهات المغامرة لمحبي المغامرة والتجديد

GMT 20:26 2018 الأحد ,07 تشرين الأول / أكتوبر

السجن المؤبد على سوري قتل طليقته ببث مباشر على "فيسبوك"

GMT 12:08 2018 الإثنين ,17 أيلول / سبتمبر

وفاة "حسني مبارك" تتصدر "تويتر" في السعودية

GMT 05:14 2018 الأحد ,18 شباط / فبراير

إيلي ماورر يؤكّد أن الأخيرة تمثل سوقًا مهمًا

GMT 08:47 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

أفران نبيذ تحولت إلى منازل تنافس على جائزة "ريبا"

GMT 06:06 2017 الخميس ,21 كانون الأول / ديسمبر

فندقان في مدينة دبي يتصدران قائمة الأسوأ خلال ٢٠١٧
 
Iraqtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday Iraqtoday
iraqtoday iraqtoday iraqtoday
iraqtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
iraq, iraq, iraq